كان السؤال غريبا، لا يتناسب مع مجلس أنس تتصدره قنينة مغنية وضاربُ دفٍ، وعازفٌ عود، لكن ابن المقفع رفع يده فتوقف الغناء، وانصرم حبل المزاج، قال لهم في جدية:
أي الأمم أعقل؟
ونظر ضيوفه في “دار النيروز” بعضهم إلى بعض، كان أول ما خطر ببالهم، أن ابن المقفع أراد أن يعلوَ عليهم بأصله الفارسي، ولم يكن أحدٌ يعلم على وجه اليقين، إن كان ابن المقفع قد اعتنق الإسلام حقًّا؛ أو أنه ما زال على دين المجوسية القديم.
ولكن رفض الرد على سؤاله كان محرجًا؛ فقد بالغ في إكرامهم هذه الليلة، ومن ناحية أخرى فهم لا يعرفون بالضبط أي الأمم أعقل.
وأسرع واحدٌ من الضيوف – كان قد أكل كثيرًا وشرب أكثر – وقال:
إنهم الفرس بطبيعة الحال.
ولكن ابن المقفع هز رأسه نفيا وهو يقول:
ليتهم كانوا كذلك؛ لقد ملكوا الأرض، وسادوا الخلق، وارتفع ذكر ملوكهم، ونفذ سهم قادتهم، ولكنهم ما استنبطوا شيئا بعقولهم ولا ابتدعوا ما يبقى بعدهم.
ودهش الضيوف من كلماته الصريحة وتبدد أثر الطرب من رؤسهم، وأسرع واحد آخر يقول:
إنهم الروم.
قال ابن المقفع: وليسوا الروم، فإنهم حكموا القوة على العقل، وطلبوا الطاعة بالدم، وأنشئوا القوانين لهم وظلموا بها غيرهم، فلم يعدلوا في الحالتين.
تساءل ضيف آخر: أهل الهند؟
قال ابن المقفع: تفلسفوا كثي رً ا حتى انقسموا، وانقسموا حتى تفتتوا؛ فهم شذرات، والشذرات لا عقل لها.
قال ضيف آخر: فهم الصين إذن؟
قال ابن المقفع: ما أشد غموضهم وما أكثر ما يبطنون وأقل ما يظهرون، وما أكثر طرائفهم وقلة أفعالهم، قوم ينحنون كثيرًا لا يستقيمون طويلا.
قال ضيفٌ: هم السود؟
قال ابن المقفع: أصحاب شراسة وعنف، والشراسة غريزة ممجوجة، والعنف لا عقل له.
قال ضيف: فالخزر؟
قال ابن المقفع: بقر سائحة في سهوب باردة، تجمعها الغارات العابرة، ويفرقهم التناحر الدائم.
قال الضيوف جميعا: لم يبقَ إلا أن تقول أنت.
قال: العرب.
ضحكوا جميعا وهو يهمسون لبعضهم البعض، كنا نجامله وهو الآن يجاملنا، ولكن ابن المقفع واصل كلماته في جدية:
ما أردت أن أعارضكم ولكنى أردت ألا يفوتني حظي من المعرفة، فالعرب حين حكموا الأرض لم يكن لهم مثل يحتذونه، ولا قواعد يسيرون عليها، كانوا أصحاب إبل وغنم، وسكان شعر وخيام، يجود أحدهم بقوته ويتفضل بمجهوده، ويضعف كل شيء بعقله فيكون قدره، ويفعله فيصير حجة ويحسن ما شاء فيحسن، ويقبح ما شاء فيقبح، أدبتهم أنفسهم ورفعتهم همتهم، وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم، فلم يزل حباء الله فيهم، وحباؤهم في أنفسهم حتى رفع لهم الفخر، وبلغ بهم شرف الذكر، وختم لهم بملك الأرض على الدهر، وافتتح دينه وخلافته بهم إلى يوم الحشر.
آه يا ابن المقفع، يا صاحب الحكم البليغة، والحيوانات الفصيحة، لو رأيت حال العرب اليوم، فالفرس قد اشتعلت نارهم، والصين سادت حكمتهم، والهند أضيئت عقولهم، والسود ازداد بأسهم، ولم يبقَ في أسر الوهن والعجز إلا نحن أمة العرب، فهل تبقى شهادتك كما هي؟
0 Comments